وصرخ الدكتور "جمال" وهو يعدو بأقصى سرعته:
- سيلتهمنا... سيلتهمنا جميعاً.
وانطلق الجميع يعدون واتساع الشق يطاردهم كألف ألف شيطان، وبسرعة تتجاوز قوتهم مرتين على الأقل...
ومن خلفه سمع الدكتور "جمال" صرخات الرجال، الذين راح الشق يلتهمهم بلا رحمة أو هوادة، فزادت سرعة عدوه، حتى خيل له أنه يعدو بأسرع من قدرات البشر بالفعل..
ويبدو أن هذا كان صحيحاً، لأن قلبه كان يخفق على نحو مخيف رهيب...
وأخيراً، عجز جسده البشرى عن الاتصال والمواصلة، فسقط..
هوى على وجهه وهو يصرخ:
- إنها النهاية.... إنها النهاية
ولكن الارتجاف توقف بغتة، مع آخر حروف صرخته... وهدأ كل شيء...
ولثوان، لم يصدق الدكتور "جمال" أنه قد نجا، فظل منكمشاً عى نفسه، يغلق عينيه في قوة، ويرتجف كطير مبتل، في يوم بارد...
وأخيراً، فتح عينيه وحدق فيما أمامه في ذهول مذعور عندما سمع صوت الضابط المسئول، يقول في خفوت، يحمل كل انفعالات الدنيا:
- لم يتبقَ سوانا.
وأمام عيني الدكتور "جمال"، وعلى مسافة عشرين متراً فحسب، كانت حافة الشق تتألق، بذلك الوهج البرتقالي وتنبعث من خلفها الأدخنة الحمراء القانية... أما الشق نفسه، فكان قد اتسع، حتى التهم المكان كله...
بكل ما فيه...
ومن فيه...
وكان هذا يعني أن الدكتور "جمال" على حق...
لا توجد وسيلة وحيدة للنجاة..
أية وسيلة..
* * *
"أريد استعادة طائرتي..."
نطق "عزت" العبارة، بكل ما تفجر في كيانه من انفعالات، فحدق فيه "حسن" بدهشة، مردداً:
- طائرتك؟! ماذا تعني؟!
لوح "عزت" بذراعيه انفعالاً، وهو يقول:
- أعني أنني أريد إنهاء الموقف كله.. أريد محو الساعات العشر الماضية وكأنها لم تكن... سأقود طائرتي، وأبتعد عن هنا.
هتف "حسن" مستنكراً:
- تقود ماذا؟! هل جننت يا رجل؟ هذا مستحيل تماماً.
أمسك "عزت" ذراعيه في قوة وهو يقول:
- بل هذا هو الأمل الوحيد يا "حسن"... صدقني.. الأمل الوحيد في أن ينجو عالمنا منهم.
حدق فيه "حسن" بدهشة مستنكرة، فتابع "عزت" في انفعال:
- لقد كنت على حق... أنا وحدي أعرف نقطة ضعفهم... أنا وحدي يمكنني الوصول إليهم، وسحقهم تماماً.. أرجوك طائرتي.
ظل "حسن" يحدق فيه لحظة، ثم لم يلبث أن انتزع نفسه منه وتراجع بحركة حادة قائلاً:
- هذا غير ممكن..
وخفض عينيه لحظة، وكأنما يخفي انفعالاً ما، أو يحسم أمراً ما ثم عاد يرفعهما قائلاً:
طائرتك تحت التحفظ ومازالت تخضع للفحص والاختبار ومن المستحيل أن...
قاطعه "عزت" في انفعال:
- افعل شيئاً يا "حسن"... أرجوك... لا تضع الوقت... لا تحطم عالمنا، لأنك عاجز عن اتخاذ قرار كهذا.
ران عليهما صمت مطبق، لما يقرب من دقيقة كاملة، على الرغم من انفعالهما الجارف، وكلاهما يتطلع إلى عيني الآخر وكأنما يحاول أن يستشف ما يدور في عقله..
دقيقة عصفت فيها عشرات الأفكار والاحتمالات برأس "حسن"..
صحيح أن ما يطلبه "عزت" عسير...
ولكنه ليس مستحيلاً...
فبحكم منصبه، وموقعه، والصلاحيات التي تم منحه إياها هذا الصباح، كان باستطاعته أن يعيد "عزت" إلى طائرته...
وأن يسمح له بالإقلاع بها أيضاً..
صحيح أن الكل سيعترض على هذا الإجراء، وربما يصفونه بالجنون كما أن الطيران الليلي ليس سهلاً أو مقبولاً، وخاصة بواسطة مقاتلة عتيقة الطراز كهذه...
ولكن أحداً -بحكم القانون- لن يملك منعه...
ومن ناحيته، كصديق قديم ل"عزت" فهو يميل إلى منحه ما يريد...
حتى ولو كان هذا ضرباً من الجنون..
ولكن من موقعه، كضابط مخابرات مسئول، لم يكن من الممكن أن يسمح بهذا، قبل أن يتيقن من صحة الأسباب، وصدق وسلامة الدوافع...
و"عزت" يضعه أمام خيار عسير للغاية..
فالعالم كله يواجه خطر إبادة شاملة، خلال ساعات قليلة..
وربما كان ما سيفعله "عزت" هو بالفعل الأمل الوحيد في النجاة...
ربما...
ولكنّ هناك أمرا آخر، ينبغي أن يخشاه..
ذلك النداء الغامض، الذي تحدث عنه "عزت" أكثر من مرة...
ماذا لو أن تلك الأشياء، التي يجهل كينونتها تماماً، قد سيطرت على عقل "عزت" بالفعل؟!
وماذا لو أن ما سيفعله بطائرته، سيكون بمثابة إشعال فتيل عملية الإبادة الشاملة، وهو نفسه لا يدرك هذا؟!
احتمال بالغ الخطورة بالفعل...
ولكن على "حسن" أن يتخذ القرار..
وبمنتهى السرعة...
وهذا ليس بالأمر اليسير...
ليس كذلك أبداً...
وفي بطء يموج بالانفعالات، سأل "حسن":
ماذا ستفعل بالطائرة؟!
أجابه "عزت" في سرعة وصرامة:
- سأذهب إليهم.. الطائرة ستحميني منهم كما فعلت من قبل.
ثم انعقد حاجباه وهو يضيف:
- وأقسم ألا أتوقف قبل أن أمحو شرورهم، من الكون كله.
ازدرد "حسن" لعابه، وهو يسأل بصوت أكثر خفوتاً:
- وماذا سيحدث لك؟!
تطلع "عزت" إلى عينيه مباشرة، وهو يقول مكرراً:
- أريد استعادة طائرتي يا "حسن".. أرجوك.
ارتجفت شفتا "حسن"، وهو يغمغم:
ليس بهذه البساطة.
اندفع "عزت" نحو النافذة، وأشار إلى المكان خارجها هاتفاً:
هكذا؟! ألقِ نظرة إذن على عالمنا يا صديقي... فربما كانت هذه آخر مره تراه فيها في حياتك كلها.
ثم عقد ساعديه أمام صدره مضيفا:
- أعني في حياة الأرض كلها..
ولم يجب "حسن" بحرف واحد..
فالقرار بالنسبة إليه مازال عسيراً
عسيراً للغاية..